الفرق بين الأصنام والأوثان
أولاً- الأصنام جمع : صَنَمٍ ، والصَّنَمُ- في اللغة- لفظ يطلق على ما يُنْحَت ويُصَوَّر من حجر أو خشب أو ذهب أو نحو ذلك ، على هيئة صورة كصورة كوكب أو جني أو شجرة أو آدمي أو نبي أو عبد صالح أو طالح أو حيوان . واشتقاقه من ( الصاد والنون والميم ) ، وهو كلمة واحدة لا فرعَ لها . وقيل : إنه مُعَرَّب : شَمَنْ . والصَّنَمُ أيضًا هو العَبْدُ القوي ، وهو الخبيث الرائحة . والصَّنْمُ أيضًا هو حُسْنُ التصوير . يقال : صَنَمَ الصُّورةَ ، إذا أحسن تصويرها . وقد سمَّت العرب صُنَيْمًا ، وكانت تضرب المَثَلَ بالصَّنَم في الحُسْنِ . قال ابن منظور في لسان العرب :« روى أبو العباس عن ابن الأعرابي : الصَّنَمةُ والنَّصَمةُ : الصُّورةُ التي تُعْبَد » . وقال أيضًا : « وروي عن الحسن أنه قال : لم يكن حيٌّ من أحياء العرب إلا ولها صَنَمٌ يعبدونها ، يسمونها : أنثى بني فلان » . قال :« وقوله : ولها صَنَمٌ يعبدونها ، لعلَّه أنَّث الضمير العائد إلى الحيِّ ؛ لأنه في معنى القبيلة . وأنَّث الضمير العائد إلى الصَّنَم ؛ لأنه في معنى الصورة » .
ومن دعاء إبراهيم عليه السلام :﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾(إبراهيم:35) ، وهي عبارة عن ( تماثيل ) صنعها قومه على هيئة صور مخصوصة ، وعبدوها من دون الله تعالى ، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه السلام :﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾(الأنبياء: 52) ؟ وكان قد سألهم في آية أخرى عن عبادتهم ، فقال :﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾(الشعراء:70) ؟ قالوا :﴿ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾(الشعراء:71) .
فالأصنام التي كان يعبدها قوم إبراهيم- عليه السلام- إنما هي ( تماثيل ) صنعوها بأيديهم على هيئة صور مخصوصة ؛ كما كان يفعل قوم نوح عليه السلام ؛ إذ قالوا :﴿ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾(نوح:23) . أي : لا تتركوا عبادة آلهتكم ، ولا عبادة هؤلاء ( وُدًّا ، وسُوَاعًا ، ويَغُوثَ ، ويَعُوقَ ، ونَسْرًا ) . وإنما خصُّوا هذه بالذكر مع اندراجها فيما سبق ؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم ، وإن كانت متفاوتة في العظم فيما بينها بزعمهم ؛ كما يومئ إليه إعادة ( لا ) مع بعض ، وتركها مع آخر ، وهي- على ما قيل- كانت أسماءً لرجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم : أن انصبوا لهم في مجالسكم التي تجلسون فيها تماثيل ، وسمُّوها بأسمائهم ، ففعلوا ، ثم عبدوها من دون الله تعالى . وقيل : انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى العرب بأعيانها . وقيل : بل بأسمائها ، فعبدوها من دون الله تعالى .
أما ( وُدٌّ ) فكان لكلب بدومة الجندل ، وأما ( سُوَاعٌ ) فكان لهذيل ، وأما ( يَغُوثُ ) فكان لمراد ، ثم لبني غطيف عند سبأ ، وأما ( يَعُوقُ ) فكان لهمدان ، وأما ( نَسْرٌ ) فكان لحمير ، لآل ذي الكلاع .
ومن ذلك قوله تعالى في قصة بني إسرائيل :﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾(الأعراف:138) . وهؤلاء القوم- على ما قيل- كانوا من العمالقة الذين أمر الله تعالى موسى- عليه السلام- بقتالهم . قال قتادة : كانوا من لَخْمٍ ، وكانوا نزولاً بالرَّقَّة . وقيل : كانت أصنامهم تماثيل بقر ؛ ولهذا قالوا :﴿ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾ ، فأخرج لهم السَّامِرِيُّ عجلاًُ ؛ كما قال تعالى :﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ (طه:88) .
ونظير ذلك قولُ جُهَّال الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أتى حُنَيْنًا ومرَّ بشجرة يعلِّق المشركون بها أسلحتهم ، ويعظِّمونها في كل سنة يومًا ، يقال لها : ذاتُ أَنْوَاطٍ ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذاتَ أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال صلى الله عليه وسلم :« الله أكبر ! هذا كما قال قوم موسى : ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾ . والذي نفسي بيده ، لتركبُّن سنن من قبلكم » .
وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها ، وكان أعظمها عندهم ( هُبَلٌ ) ، وكان- على ما قيل- من عقيق أحمر ، على صورة الإنسان ، مكسور اليد اليمنى ، أدركته قريش كذلك ، فجعلوا له يدًا من ذهبٍ . وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وكان يقال له : هُبَلُ خُزَيْمَةَ . وهُبَل : اسم رجل مَعْدول عن هابِل . وبنو هُبَل : بطْن من العرب من قبيلة كلْب ، يقال لهم : الهُبَلات .
وفي الحديث الصحيح عن علي- رضي الله عنه- قال :« لما كان الليلة التي أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيت على فراشه ، وخرج من مكة مهاجرًا ، انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام ، فقال : اجلس ، فجلست إلى جنب الكعبة ، ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكبي ، ثم قال : انهض ، فنهضت به ، فلما رأى ضعفي تحته ، قال : اجلس ، فجلست ، فأنزلته عني ، وجلس لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لي : يا علي ! اصعد على منكبي ، فصعدت على منكبيه ، ثم نهض بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخيل إلي أني لو شئت نلت السماء ، وصعدت إلى الكعبة ، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقيت صنمهم الأكبر ، وكان من نحاس مُوتَّدًا بأوتاد من حديد إلى الأرض ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : عالجه ، فعالجته فما زلت أعالجه ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إيهِ إِيه ، فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه ، فقال : دقه ، فدققته ، فكسرته ، ونزلت » .
ثانيًا- وأما الأوثان فهي جمع : وَثَنٍ ، والوَثَنُ- في اللغة- هو ما كان جثَّة على هيئة صورة ، أو غير ذلك ؛ سواء نُحُِتَ ، أو لم يُنْحَت . وقد يكون الوَثَنُ أيضًا على هيئة صورة بلا جُثَّة ، خلافًا للصَّنَم ؛ فمن ذلك ما كانوا يصورونه في الحائط من صور الإنسان والحيوان ، ويعبدونه من دون الله تعالى . فتلك الصور تسمَّى أوثانًا ، وكان النصارى يفعلون ذلك ، ويصوِّرون في بيعهم صورة المسيح وصورة مريم ، ويسجدون لهما . وقد يُطلَق لفظ الوَثَن أيضًا على ما يُعَظَّم ويُعْبَد من الحيوان كالبقر ، ونحوه ، ويُطلَق على عابد الوَثَن لفظ الوَثَنِيِّ ، فيقال : رجل وثَنِيٌّ ، وامرأة وَثَنِيَّة ، وقوم وثنيُّون ، كما يُطلَق لفظ الوَثَن على من كان يعبد الأوثان . قال المدائني :« كتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة حين أبى المصير إليه ، وكان مع الحسن بن علي عليهما السلام : يا يهودي بن اليهودي ! إنما أنت عبد من عبيدنا . فكتب إليه قيس : يا وَثَنُ ، يَا بْنُ الوَثَنِ ! دخلتم في الإسلام كارهين ، وخرجتم منه طائعين ».
واشتقاق الوَثَن من ( الواو ، والثاء ، والنون ) ، وهو كلمةٌ واحدة ، تدور بجميع تقاليبها على الزيادة والكثرة ، ويلزمها الفرقة من اختلاف الكلمة ، فيلزمها حينئذ الرخاوة ، فيأتي العجز . وأصلها من قولهم : وَثَنَ بالمكان . أي : أقام به وثبت ، فهو وَاثِنٌ . أي : مقيم ثابت . وأوْثَنَ فلان الحمل : كثَّره . وأوثَنْتُ له العطاء : أعطيته عطاء جزيلاً . واسْتَوْثَنَ المال : كثُر . واسْتَوثَنَ من المال : استكثَر منه . واستَوْثَنَ الشيءُ . أي : قوي . واسْتَوْثَنَت الإبل : نشأت أولادها معها . واسْتَوْثَنَ النخل : صار فرقتين كبارًا ، وصغارًا .
ويُجْمَع الوَثَنُ أيضًا على : وُثُنٌ ، ووُثْنٌ ، بسكون الثاء وضمها ، وكذلك يُجْمَع على : أُثُنٌ ، بإبدال الهمزة من الواو . وقول الله تعالى :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً ﴾(النساء:117) قرئ :﴿ إِلاَّ أُثُناً ﴾ . والمراد بالإِنَاث ، والأُثُنُ : الموات من كل شيء كالحجر والخشب والشجر ، ونحو ذلك مما ليس فيه روح . وقيل : إنما سُمِّيَت الأوثان : إناثًا ؛ لقولهم : اللاَّتُ والعُزَّى ومَنَاةُ ، وأشباهُها . يقال : هذه امرأة أنثى ، إذا مُدِحَتْ بأنها كاملة من النساء ؛ كما يقال : هذا رجل ذَكرٌ ، إذا وُصِفَ بأنه كامل في الرجال .
وقد يقال للأصنام : أوثانًا ، باعتبار أنها معبودة من دون الله جل وعلا ، وأنها أجسام لا تعقل ولا تفهم ؛ كما قال تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام من قوله لقومه :﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ﴾(العنكبوت:17) ؛ وذلك إشارة منه- عليه السلام- إلى أن تلك الأصنام التي كان يعبدها قومه لا تستحق العبادة لكونها أوثانًا لا شرف لها ، ولا حياة فيها .
ومن العرب من جعل الوَثَنَ المنصوبَ صَنَمًا ؛ كالنصارى التي كانت تنصب الصليب ، تجعله كالتمثال ، فتعظمه وتعبده ؛ ولذلك سماه الأعشى وَثَنًا ، فقال :
تطوف العُفاة بأبوابه ** كطوْف النصارى ببيت الوَثَنْ
أراد بالوَثَنِ : الصليبُ . وروي عن عدي بن حاتم أنه قال : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي :« أَلْقِ هذا الوَثَنَ عنك » . أراد به الصليب ؛ كما سماه الأعشى وَثَنًا . وقد شبه النبي عليه الصلاة والسلام شارب الخمر بعابد الوَثَن ، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« مدمن الخمر كعابد وثن » . وقد جاء النهي عن تعظيم الوَثَنِ وعبادته بقول النبي صلى الله عليه وسلم :« اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد » . أي : لا تعظِّموه بالسجود له ، أو نحوه . وفي رواية :« لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي » ، فدل على أن القبر وَثَنٌ ، وليس بصَنَمٍ .. وكذلك المشاهد . أي : مشاهد القبور عند عُبَّادها ، فهذه أوثان ، وليست بأصنام . ومن الأوثان ما ورد ذكره في القرآن في قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾(النجم:19-20) .
أما ( مُنَاةُ ) فكانت منصوبة على ساحل البحر بقديد بين المدينة ومكة ، وكانت العرب جميعًا تعظمها ، وتذبح حولها ، وتسمِّي بها : عبد مناة ، وزيد مناة . وأما ( اللاَّتُ ) فكانت منصوبةً بالطائف ، وهي أحدث من مناة ، وكانت صخرةً مربعةً ، وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك ، وكانوا قد بنوا عليها بناءً ، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ، وبها كانت العرب تسمِّي : زيد اللات ، وتيم اللات . وأما ( العُزَّى ) فكانت بوادٍ من نخلة الشآمية يقال له حراض ، بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة ، فبنوا عليه بيتًا ، وكانوا يسمعون فيه الصوت ، وكانت أعظم الأوثان عند قريش يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبائح . وكانت العرب وقريش تسمِّي : عبد العزى . فهذه أوثان ، وليست بأصنام ؛ لأنها لم تكن تماثيل على هيئة صور معروفة .
ثالثًا- ويتحصل مما تقدم أن الوَثَنَ أعمُّ من الصَّنَمِ ؛ لأن الصَّنَمَ لا يُطلَق إلاَّ على التِّمثال . وأما الوَثَنُ فيُطلَق على التِّمثال وغيره ، مما عُبِد من دون الله تعالى ، على أي شكل كان حيًّا ، أو ميتًا . فيكون كل صَنَمٍ وَثَنًا ، وليس كل وَثَنٍ بصَنَمٍ ، بدليل قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام :﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ﴾(العنكبوت:17) ، فصار الوَثَنُ يشمل الصَّنَمَ ، وغيرَ الصَّنَمِ ، مما عُبِد من دون الله عز وجل ؛ فالقبر وَثَنٌ إذا عُبد .. وكذلك الإنسان والحيوان ، ويدل على ذلك قول الله تعالى :﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾(الحج:30) ، فأمر سبحانه باجتناب الرجس من الأوثان ، وهو عبادتها ، ولم يأمر باجتنابها كأوثان ؛ لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ؛ ألا ترى أنه قد يستعمل الوثن في بناء وغيره ، مما لم يحرم الشرع استعماله ؟ فللوثن جهات : منها : عبادتها ، وهي بعض جهاتها . قال ابن جريج وابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير الآية السابقة :« اجتنبوا منها العبادة » ؛ فـ( مِنَ ) على هذا التفسير تبعيضية ، وهو أحسن من قول من جعلها لبيان الجنس ، وفسر الآية على أن المعنى :« فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس » .. والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك