الفرق بين الفؤاد والقلب
أولاً- يطلق علماء اللغة لفظ { القلب } على لبِّ كل شيء وخالصه ، ويطلقونه أيضًا على اللحمة الصنوبرية المعروفة في الجانب الأيسر من صدر الإنسان ، ثم يطلقون لفظ { الفؤاد } على { القلب } ، فيعرِّفون كلاًّ منهما بالآخر . ومنهم من فرَّق بينهما بأن الفؤاد كالقلب ؛ لكن يقال له : فؤاد ، إذا اعتُبِر فيه معنى التفؤُّد . أي : التوقُّد . ومن أهل الحديث من فرَّق بينهما بأن الفؤاد هو غشاء القلب ، والقلبُ حبَّتُه وسُوَيْداؤُه . ودليلهم على ذلك الحديث الذي أخرجه البخاريُّ عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا » .
قال الخطَّابي معلِّلاً لوصف الأفئدة بالرقَّة ، والقلوب باللِّين :« لأن الفؤاد غشاء القلب ، فإذا رقَّ ، نفَذ القول وخلَص إلى ما وراءه ، وإذا غلظ ، بعُد وصوله إلى داخله ، وإذا كان القلب ليِّنًا ، علق كل ما يصادفه » . وقال صاحب ( فيض القدير ) معقِّبًا على الحديث السابق :« الفؤاد والقلب ، وإن كانا واحدًا ، على ما عليه الأكثر ؛ لكن الخبر ينبئ عن التمييز بينهما ، وهو أن الفؤاد سمِّي به لتفؤُّده ، والقلب سُمِّيَ قلبًا لكثرة تقلبه ؛ فكأنه أراد بالأفئدة ما يظهر منها للأبصار ، وبالقلوب ما يظهر منها للبصائر ». وفي ( النهاية في غريب الحديث والأثر ) لابن الأثير :« الفؤاد : القلب . وقيل : وسطه . وقيل : الفؤاد : غِشَاء القلب ، والقلبُ حَبَّتُه وسُوَيْدَاؤُه ، وجمعه : أفئدة » .
وسئل الدكتور حسام النعيمي في برنامج ( لمسات بيانية ) عن الفرق بين الفؤاد والقلب ، فذكر في جوابه بعض الأقوال السابقة ، واختار منها القول الذي ينصُّ على أن المراد بالفؤاد : غشاء القلب ، ثم قال :« عندما نقول : اخترنا هذا المعنى ، لا نعني أننا نلغي المعاني الأخرى ؛ لأن هذا كلام وآراء علمائنا .. لكن لنا أن نختار عندما يقال : كذا وكذا ، وعندنا أكثر من رأي للعلماء من خلال إطلاعهم على لغة العرب .. الشاهد الذي بين أيدينا يقوِّي الاختيار ؛ ففي الحديث :« أَتاكم أَهلُ اليمن ، هم أَرقُّ أَفئِدةً وأَلْيَنُ قلوبًا » ، ذكر الفؤاد والقلب ، وذكر الفؤاد بالرقّة ، وهي الشفافية للشيء الرقيق ، واللين للشيء السميك الذي له بُعد . فالقلب ليِّن ، والفؤاد رقيق » .
وانتهى الدكتور النعيمي من ذلك إلى القول :« الفؤاد هو الغشاء الذي يغطِّي ، والحديث الذي بين أيدينا ، يوضِّح ذلك بشكل لا لبس فيه ؛ لأنه استعمل الكلمتين في مكان واحد ، واستعمل للفؤاد الرقة ، وللقلب اللين . واللين غير الرقة .. والله أعلم ! » .
ويتحصل مما تقدم أن في الفؤاد أقوال أشهرها ثلاثة :
الأول : الفؤاد هو القلب ، وعليه أكثر العلماء .
والثاني : الفؤاد هو عين القلب ، أو باطنه ، أو وسطه .
والثالث : الفؤاد هو غشاء القلب . والقلبُ حبَّتُه وسُوَيْداؤُه .
واختار الدكتور النعيمي من هذه الأقوال المضطربة والمتناقضة القول الثالث دون أن يلغي الأقوال الأخرى ؛ لأنها- على حدِّ تعبيره- كلام وآراء علمائنا ، لنا أن نختار من أقوالهم ما نشاء ، وليس لنا أن نلغي قولاً من تلك الأقوال .
ثانيًا- ونعود بعد هذا إلى الحديث الشريف ، وهو الشاهد الذي اعتمد عليه أهل الحديث في التفريق بين { الفؤاد } ، و{ القلب } ، واعتمد عليه الدكتور النعيمي في اختياره لمعنى الفؤاد بأنه غشاء القلب ، والذي يوضِّح هذا المعنى- كما قال- بشكل لا لبس فيه ؛ لأنه استعمل الفؤاد ، والقلب في مكان واحد ، ثم استعمل للفؤاد الرقة ، وللقلب اللين :« أَتاكم أَهلُ اليمن ، هم أَرقُّ أَفئِدةً وأَلْيَنُ قلوبًا » ، ونسأل : هل الفؤاد هو غشاء القلب حقًّا ؟ وهل الحديث يوضِّح هذا المعنى بشكل لا لبس فيه ؟ ثم نقول : كيف يوضِّح الحديث هذا المعنى ، وهو يغاير بين الأفئدة والقلوب ؟ فالأفئدة شيء ، والقلوب شيء آخر بنصِّ الحديث نفسه . ومثله ما رواه الديلمي عن عوف بن مالك الأشجعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« كلوا السفرجل ؛ فإنه يُجِمُّ الفؤاد ، ويشجِّع القلب ، ويحسِّن الولد » ، فغاير بين الفؤاد ، والقلب .
أما نسبة الرقة إلى الأفئدة ، واللين إلى القلوب فلا تعني أبدًا أن الأفئدة هي أغشية القلوب . وإذا كان لعلمائنا العذر في تفسيرهم للفؤاد بالقلب أو بغشائه أو بباطنه ، فليس لنا نحن العذر في ذلك أبدًا ؛ لأننا نعيش في عصر غير عصرهم . ولو أنهم بعثوا من قبورهم وعاشوا في عصرنا ، لألغوا هم بأنفسهم كثيرًا من أقوالهم ، وبدَّلوا الكثير منها بأقوال أخرى غيرها ؛ كقولهم هنا : إن الفؤاد هو القلب ، أو غشاؤه ، والقلب هو حبَّته وسويداؤه ، أو نحو ذلك من الأقوال التي لا تجدي نفعًا ، ولا تفسر معنى . ومن يتتبع استعمال لفظ { القلب } ، ولفظ { الفؤاد } في اللغة والقرآن والحديث ، يجد أن بينهما فرقًا من وجهين :
أحدهما : أن { القلب } في الأصل مصدر سُمِّيَ به الجسم الصنوبري المعروف ، ويجمع على : قلوب ، واشتقاقه من ( القاف واللام والباء ) ، وهو- على ما قال ابن فارس- أصلان صحيحان :« أحدهما : يدلُّ على خالصِ شيءٍ وشريفه . والآخر : على ردِّ شيء من جهة إلى جهة . فالأول : القلب : قلب الإنسان وغيره ، سمِّي ؛ لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه . وخالصُ كل شيء وأشرفُه : قلبُه . والآخر : قَلَبْتُ الثوبَ قَلْبًا » .
وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال :« إنما سمِّي القلب قلبًا ؛ لأنه يتقلَّب » ؛ وكأنه ذهب به إلى الأصل الآخر الذي ذكره ابن فارس ، وجعله أصلاً للأول ، ودليله عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :« مَثَلُ القلب مَثَلُ ريشة بفلاة من الأرض تقلِّبها الرياح ظهرًا لبطن » . وعن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرِّفها حيث شاء » . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه :« يا مُصِرِّفَ القلوب ! صَرِّفْ قلوبنا إلى طاعتك » .
أما { الفؤاد } فهو اسم مأخوذ من قولهم : فَأدْتُ اللحمَ وافتأدته ، إذا شويته ، ويجمع على : أفئدة . و( الفاء والألف والدال )- على ما قال ابن فارس- « أصل صحيح يدل على حُمَّى ، وشدَّةِ حَرارة ؛ من ذلك : فأدت اللحم : شويته » . وقال الخليل :« وسُمِّيَ الفؤادُ لِتَفَؤُّدهِ . أي : لِتَوَقُّده . وفُئِِدَ الرجلُ فهو مَفؤودٌ . أي : أصابَه داءٌ في فؤاده » . وفي اللسان :« فأَدَهُ يَفْأَدُهُ فَأْدًا : أَصابَ فؤادَه . وفَئِدَ فَأَدًا : شكا فُؤَادَه ، وأَصابه داء في فؤاده ، فهو مَفؤُودٌ » . فالمَفْؤُودُ هو الذي أُصيبَ فؤادُه . ومثله المَصْدُور الذي أُصيب صدرُه ، والمَقْلوبُ الذي أُصيبَ قلْبُه . وفي تفصيل أوصاف الجبان وترتيبها قالوا :« رجل جبانٌ ، وهيَّابةٌ ، ثم مَفْؤودٌ ، إذا كان ضعيف الفؤاد ، ثم وَرَعٌ ضَرَعٌ ، بتحريك الأول والثاني ، إذا كان ضعيف القلب والبدن » .
ويتحصَّل من ذلك : أن القلب في الأصل مصدر سمِّي به الجسم الصنوبري قلبًا لتقلُّبه ، ومادته { قلب يقلب } ، وأن الفؤاد في الأصل اسم سمِّي به الفؤاد فؤادًا لتفؤُّده ، ومادته { فأد يفأد } ، والمادتان مختلفتان لفظًا ومعنى .
والوجه الثاني : أن { القلب } مقرُّه الجانب الأيسر من صدر الإنسان ، وإليه الإشارة بقول الله عز وجل :﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾(الحج: 46) ، وهو العضو الرئيس في الدورة الدموية والمسئول عن مدِّ خلايا الجسم بالغذاء والطاقة ، وعليه أن يوفر لكل جهاز من أجهزة الجسم ما يكفيه من الغذاء في حالتي الاعتدال والتفريط . ويرى العلماء أن أي تقصير في عمل القلب سوف ينعكس سلبًا على الجسد كله . وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف :« ألا ، وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا ، وهي القلب » .
والمضغة هي القطعة من اللحم ، وهي بقدْر ما يُمضَغ . وعُبِّر بها- هنا- عن مقدار القلب في الرؤية ، وخُصَّ القلب بذلك ؛ لأنه أميرُ الجسد كله ، وبصلاح الأمير تصلُح الرعيَّة ، وبفساده تفسُدُ . وفيه تنبيهٌ على تعظيمِ قَدْر القلب ، والحثِّ على صلاحه وسلامته ؛ إذ لا ينفع عند الله إلا القلبُ السليم ؛ كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾(الشعراء: 88-89) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه :« اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا » . وفي مسند الإمام أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيمَ قلبُه » .
أما { الفؤاد } فمقرُّه مُخُّ الإنسان ، وهو أحد المناطق التكليفية العقلية العليا في المخ ، وهي السمع والبصر والفؤاد ، وإليها الإشارة بقول الله عز وجل :﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾(الإسراء: 36) ، وقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أن هذه المناطق تتعامل مع المسموعات والمرئيَّات بكفاءة عالية ، لم يتم الكشف عنها إلا مؤخرًا ؛ فالإنسان يسمع أولاً وينفعل بما يسمع ، ويبصر ثانيًا وينفعل بما يبصر ، ثم يتفأَّد بما يسمع ويبصر . وبتعبير آخر : إن اكتساب العلوم والمعارف إنما يحصل بعد الانتقال من مرحلة الإدراك الحسي بالسمع والبصر إلى مرحلة الإدراك العقلي . وهذه هي طريقة تعلم المعارف والخبرات ، وكلها تجيء بحسب الترتيب الذي ذكره القرآن ، وهو الإدراك الحسي أولاً ، ثم الإدراك العقلي ثانيًا . ودليل ذلك واضح في أن الطفل يولد لا يعلم شيئًا ، ثم تتوالى عليه المدركات الحسية وتتكاثر عن طريق السمع ثم البصر ، فإذا ما صارت مجموعة المدركات الحسية كافية ، يأتي دور الفؤاد ؛ ليعقل ويعي ما أدركه الطفل منها بحواسه . وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة :﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾(النحل: 78) .
وقد لاحظ العلماء أن مركز السمع يتقدم مركز البصر في مُخِّ الإنسان ، حيث يوجد الأول في الفصِّ الصدْغي الأمامي من المخ ، وهو المسئول عن فهم اللغة المنطوقة من الآخرين والمسموعة من الفرد وأداته الأذن ، ويوجد الثاني في الفص المؤخري من المخ ، وهو المسئول عن فهم اللغة المكتوبة من الآخرين والمقروءة من الفرد وأداته العين . وبين هذين المركزين يوجد الفؤاد بمناطقة المتعددة ؛ كمناطق العواطف والغرائز والإحساس بالألم والاختيار بين البدائل . وقد كشف العلماء عن وجود منطقة في وسط الفؤاد تسمَّى منطقة { البيان } ، وتعرف بمنطقة { فيرنيكا } ، وهي المنطقة البينية المسئولة عن فهم كل من اللغة المنطوقة والمكتوبة .
وتعطيل هذه المناطق الثلاثة – أعني : السمع والبصر والبيان- يؤدي إلى أن يصبح الإنسان أََصَمَّ لا يسمع ، وأَعْمَى لا يبصر ، وأَبْكَمَ لا ينطق . وهذا ما عبَّرت عنه الآية القرآنية الكريمة في وصف المنافقين والكافرين :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾(البقرة: 18-171) ، تأمل كيف أتى لفظ { بُكْمٍ } متوسِّطًا بين لفظ { صُّمٍّ } و{ عُمْيٍِ } ، إشارة إلى موقع منطقة { البيان } بين مركز السمع من الأمام ، ومركز البصر من الخلف في المخِّ .
و{ البُكْمُ }- كما جاء في لسان العرب- هم { المسلوبو الأفئدة } ، مفرده : أبكم ، واشتقاقه من : بَكَم . والبَكَمُ بفتحتين : الخَرَسُ مع عِيٍّ وبَلَهٍ . يقال : بَكِمَ فهو أَبْكَمُ . وفي الفرق بين الأخرس ، والأبكم قال الأَزهري :« الأَخْرسُ خُلِقَ ولا نُطْقَ له ؛ كالبَهيمة العَجْماء . والأَبْكَمُ الذي للسانه نُطْقٌ ، وهو لا يعْقِل الجوابَ ، ولا يُحْسِن وَجْه الكلام » . وخلاف الأبكم : الفصيح الذي يعقل الجواب . وقد ضرب الله تعالى المثل بهما في بقوله :﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾(النحل:76) .
وهكذا يشير قول الله عز وجل ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ في إعجاز باهر إلى المنطقة البينية التي هي إحدى مناطق الفؤاد في مخ الإنسان ، والتي تقع بين مناطق السمع والبصر ، وفيها يتم عقل البيان ، وتربطها ألياف ترابطية بمنطقة { بروكا } المسئولة عن إصدار اللغة المنطوقة ، والتي تقع في الفص الجبهي السائد من المخ . وقد صدق الشاعر العربي إذ قال :
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا
وقيل : إنما قال :« إِنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ ... » .
وما أحسن قول الباخرزي :
قالَتْ : وقد فتَّشْتُ عنها كلّ منْ ... لاقيتُهُ منْ حاضرٍ ، أَو بادِي
أَنا في فُؤادِكَ فارْمِ لَحْظكَ نحوهُ ... تَرَنِي فقلتُ لها : وأَينَ فُؤادي
ثالثًا- ونقرأ قول الله تعالى :﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾(القصص: 10) ، فنجد في وصف فؤاد أم موسى بالفراغ إشارة واضحة إلى فقدان الذاكرة . فبعد أن ألقت الأم بابنها الرضيع في اليمِّ والتقطه فرعون ، أصيبت بصدمة فقدت على أثرها ذاكرتها ، فأصبح فؤادها فارغًا من الوعد الذي تلقته من الله تعالى ، قبل أن تلقي بابنها في اليمِّ . لقد أنساها عِظَمُ البلاء ما كان من وعد الله تعالى لها ، وعهده إليها أن يرد إليها ابنها ، وكادت لتبديَ به ، لولا أن ربط الله على قلبها . والربْطُ على القلب : تأنيسُه وتقويتُه . رويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :« كادت أمُّ موسى أن تقول : وا ابناه ! وتخرجَ سائحةً على وجهها » .. ففؤاد أم موسى أصبح معطلاً ، بينما كان قلبها- صاحب اليد العليا- في هذه القضية حاضرًا . وهذا يؤكد أن الفؤاد أداة من أدوات القلب ، مثله في ذلك مثل السمع والبصر .
ثم نقرأ دعوة إبراهيم عليه السلام :﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾(إبراهيم: 37) ، فنجد في وصف إبراهيم- عليه السلام- الأفئدة بقوله :﴿ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ إشارة إلى منطقة العواطف في الفؤاد ؛ إذ لا يمكن أن يحج المسلمون إلى هذا الوادي الخالي من الزرع ، إلا إذا كان يمثل لهم عاطفة مَّا ! قال مجاهد :« لو قال :﴿ أَفْئِدَةَ النَّاسِ ﴾ ، بحذف { من } ، لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند » . وقال سعيد بن جبير :« لو قال :﴿ أَفْئِدَةَ النَّاسِ ﴾ ، لحجَّت اليهود والنصارى والمجوس ؛ ولكنه قال :﴿ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ ﴾ ، فهم المسلمون » .
ثم نقرأ قول الله عز وجل :﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ﴾(الأنعام: 113) ، وقوله سبحانه :﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾(التحريم: 4) ، فنجد كيف أسند الفعل { تَصْغَى } في الآية الأولى إلى { الأفئدة } ، في حين أسند الفعل { صَغَا } في الآية الثانية إلى { القلوب } . والأول من : صَغِيَ يَصْغَى صَغًى ، وصُغِيًّا . والثاني من : صَغَا يَصْغُو صَغْوًا ، وصُغُوًّا . وكلاهما يدل على الميل ، والفرق بينهما : أن الثاني يميل بنفسه ، بخلاف الأول . فالقلوب التائبة تميل إلى الله عز وجل برضاها . وأما الأفئدة فتميل بسبب ما يُزَيَّن لها من زُخْرُف الْقَوْلِ المذكور في الآية السابقة ، وهي قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ﴾(الأنعام: 112) . و{ زُخْرُفَ الْقَوْلِ } هو الكلام الفاسد ، المُزَيَّن بالباطل ، وهو الكلام الذي يثير الغرائز المختلفة في الأفئدة ، فتميل إليه . وهذا يعني : أن الآية الأولى ربطت الغرائز التي يثيرها القول الباطل بالأفئدة التي محلُّها المُخّ ، وأن الآية الثانية ربطت الإيمان بالقلوب التي محلُّها الصدور .
وقال تعالى :﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الََّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾(الهُمَزَة: 6- 7) . أي : يبلغ ألمها الأفئدة . قال ابن قتيبة :« تشرف على الأفئدة . وخصَّ الأفئدة ؛ لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه ، فأخبر أنهم في حال من يموت ، وهم لا يموتون » . وقال أبو حيان :« ذكِرت الأفئدة ؛ لأنها ألطفُ ما في البدن ، وأشدُّه تألمًا بأدنى شيء من الأذى » . وألطفُ شيء في الجسد ، وأرقُّه هو الأفئدة ؛ كما ورد ذلك في الحديث الشريف الذي تقدم ذكره :« أَتاكم أَهلُ اليمن ، هم أَرقُّ أَفئِدةً ، وأَلْيَنُ قلوبًا » . وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن مكان الإحساس بالألم هو الأفئدة . تأمل ذلك قول الله عز وجل :﴿ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴾(المدّثر: 28). قال صالح بن حيان عن ابن بريدة :« تأكل العظمَ واللحمَ والمُخَّ » .
وقيل في قوله تعالى :﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾(المعارج: 15-16) :« تحرق كل شيء من الإنسان ، ويبقى فؤاده يصيح » . هذا وقد قرَّر الأطباء أن أول ما يموت في الإنسان هو دماغه ، بدليل أن القلب يستمر في النبض والضخِّ بعد موت الدماغ .
وأما قوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الأنعام: 110) فالمراد منه : تقليب أفئدتهم وأبصارهم في نار جهنم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى ، وخُصَّت الأفئدة بالذكر ؛ لأنها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات .
وقيل في تفسير قوله تعالى في حق الظالمين :﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾(إبراهيم: 43) ، قيل :« أفئدتهم خالية من العقل والفهم ؛ لفرط الحيرة والدهشة » . والهواء في اللغة : المجوف الخالي الذي لم يشغله شيء .
وفي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير » . وزاد رَزينُ في رواية :« وأكثر أهل الجنَّة البُلْهُ » . قال ابن الأثير :« يريد ، والله أعلم : أنها مثلها ، في أنها خالية من ذنب ، سليمة من كل عيب ، لا خبرة لهم بأمور الدنيا » . والبُلْهُ جمع: أبْلَه، وهو الغَفِل عن الشَّر ، المطْبُوع على الخير .
رابعًا- ويشير قول الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾(الأعراف: 179) ، وقوله سبحانه :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾(الحج: 46) إلى أن القلب وسيلة لفقه الأشياء وعقلها . ويتحدث العلماء اليوم عن الدور الكبير الذي يلعبه القلب في عملية الفقه والفهم والإدراك .
ويذهب بعض المفسرين إلى أن لفظ القلب قد يطلق ويراد به العقل ؛ كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾(ق: 37) . أي : لمن كان له عقل ، وإنما عبِّر عنه بالقلب ؛ لأن القلب مَحلُّ العقل واستقراره .
وكون القلب محل العقل هو مذهب الشافعي وأكثر المتكلمين ، ومذهب أبي حنيفة . ومذهب جماعة من الأطباء أن محل العقل الدماغ . وقيل : هو مشترك بينهما . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال :« العقل في القلب ، والرحمة في الكبد ، والرأفة في الطحال ، والنفس في الرئة » . وقيل :« تنزل المعاني الروحانيات أولاً إلى الروح ، ثم تنتقل منه إلى القلب ، ثم تصعد إلى الدماغ ، فينتقش بها لوح المخيلة » .
وقال النووي في شرح الأربعين النووية :« وخصَّ الله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو ، وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة ، فتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها ، وتميز به مضارها من منافعها ، ثم خصَّ الله نوعَ الإنسان من سائر الحيوان بالعقل ، وأضافه إلى القلب ، فقال تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾(الحج: 46) ، وقد جعل الله الجوارح مسخَّرةً له ومطيعة ، فما استقرَّ فيه ظهر عليها وعملت على معناه ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر . فإذا فهمت هذا ، ظهر لك قوله صلى الله عليه وسلم :” ألا ، وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا ، وهي القلب “ ، نسأل الله العظيم أن يصلح فساد قلوبنا » .
وهكذا يعتقد النووي أن للإنسان قلب واحد لا قلبان ، وقد فرق بين قلب البهيمة وقلب الإنسان ، خلافًا للإمام الغزالي الذي يعتقد أن للإنسان قلبين ، وأن القلب المذكور في القرآن والسنة إنما هو قلب معنوي مثله مثل النفس والروح لا يدرك بالبصر ، وهو الذي يفقه الأشياء . وأما القلب الصنوبري الشكل ، والمودع في الجانب الأيسر من الصدر إنما هو عبارة عن قطعة لحم لا قدر له تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين .
ويتابع الإمام الغزالي فيما ذهب إليه أحد أطباء القلب المعاصرين ، ويزعم أن هذا القلب في اعتبار العلم الحديث ليس هو إلا مجرد مضخة تضخ الدم إلى كل خلية في الجسم عبر شبكة معقدة طويلة من الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية التي يبلغ طولها آلاف الكيلومترات ، وأنه موجود في الحيوان والإنسان على السواء . هذا في الوقت الذي نرى فيه العلماء يتحدثون اليوم عن دماغ موجود في وسط القلب يتألف من أربعين ألف خلية عصبية ، إلى جانب ملايين الخلايا التي يتكون منها القلب نفسه ، ويؤكدون أنه يوجد في كل خلية من هذه الخلايا برامج خاصة للذاكرة يتم فيها تخزين جميع الأحداث التي يمر فيها الإنسان ، وتقوم هذه البرامج بإرسال هذه الذاكرة للدماغ ؛ ليقوم بمعالجتها . وهذا يعني: أن ما نسميه { العقل } موجود في مركز القلب ، وهو الذي يقوم بتوجيه الدماغ لأداء مهامه . وبذلك يبقى القلب أمير الجوارح ، وكل ما في الجسد من أعضاء إنما هي طرق للقلب وأدوات له بما في ذلك السمع والبصر والفؤاد .. والله تعالى أعلم .
بقلم : محمد إسماعيل عتوك