من كتاب دروس رمضان للشيخ محمد إبراهيم الحمد - غض البصر
إن النظرةَ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس _كما جاء في الحديث_ وشأنُ السهمِ أن يسريَ في القلب؛ فيعملَ فيه عملَ السمِّ الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر، واستفرغه وإلا قتله ولابد.
وكذلك النظرةُ؛ فإنها تفعل في القلب ما يفعله السهمُ في الرَّميَّة، فإن لم تقتله جرحته.
والنظرةُ بمنزلة الشرارة تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقْه كلَّه أحرقت بعضه كما قيل:
كلُّ الحوادثِ مبداها من النظر *** ومعظمُ النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها *** فتكَ السهام بلا قوسٍ ولا وتر
والمرءُ مادام ذا عينٍ يقلبها *** في أعين الغيد موقوفٌ على الخطر
يسرُّ مُقْلَتَهُ ما ضرَّ مهجتَه *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهامٍ غَرضُها قلبه وهو لا يشعر، قال المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُهُ *** فَمَنِ المطالبُ والقتيلُ القاتلُ
قال ابن القيم رحمه الله:(ولما كان النظرُ أقربَ الوسائلِ إلى المحرم اقتضت الشريعةُ تحريمَه، وأباحتْه في موضع الحاجة.
وهذا شأن كلِّ ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة).
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه:(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرفَ بصري).
قال ابن القيم رحمه الله:(ونظرُ الفجأةِ هي النظرة الأولى، التي تقع بغير قصد؛ فما لم يتعمدْه القلبُ لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانيةَ تَعَمُّداً أثِم؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند نظرة الفجأة أن يصرفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره).
فغض البصر _بإذن الله_ أمانٌ من الفتنة، وسبيلٌ إلى الراحة والسلامة؛ فإذا غض العبدُ بصره غضَّ القلب شهوتَه وإرادته.
قال_تعالى_:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)(النور: من الآية30).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل _سبحانه_ غضَّ البصر، وحفظَ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس.
وزكاةُ النفوسِ تتضمن زوالَ جميعِ الشرورِ من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك).
وقال ابن الجو زي رحمه الله: (والو اجب على من وقع بصرُه على مُسْتَحسنٍ، فوجد لذةَ تلك النظرةِ في قلبه أن يصرفَ بصرَه؛ فمتى ما تَثَّبَت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً.
فإن قيل: فإن وقع العشقُ بأول نظرةٍ فأي لومٍ على الناظر؟
فالجواب:أنه إذا كانت النظرةُ لمحةً لم تَكَدْ توجبُ عِشقاً،إنما يوجبه جمودُ العين على المنظور بقدر ما تَثْبُتُ فيه، وذلك ممنوع منه.
ولو قَدَّرنا وجودَه باللمحة، فأثَّر محبةً سَهُلَ قمْعُ ما حصل).
إلى أن قال رحمه الله:(فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟
قيل: علاجهُ الإعراضُ عن النظر؛ فإن النظرةَ مثلُ الحبةِ تُلْقَى في الأرض؛ فإذا لم يُلتَفَتْ إليها يَبَستْ، وإن سقيت نَبَتَتْ؛ فكذلك النظرةُ إذا أُلحقت بمثلها).
وقال:(فإن جرى تفريطٌ باتْباعِ نظرةٍ لنظرةٍ فإن الثانية هي التي تُخاف وتُحذر؛ فلا ينبغي أن تُحْقَر هذه النظرةُ؛ فربما أورثت صبابةً، صبَّت دمَ الصبِّ).
وقال ابن القيم : (فعلى العاقلِ ألا يُحَكِّم على نفسه عشقَ الصور؛ لئلا يؤدِّيَه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرِها، أو بعضِها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرِّط بنفسه، المُضِرُّ بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكرارُه النظرَ إلى وجه معشوقه، وطمُعه في وصاله لم يتمكَّنْ عِشْقُه من قلبه)