يقول ابن القيم: "فائدة أيهما أفضل السمع أو البصر؟"
اختلف ابن قتيبة وابن الأنباري في السمع والبصر أيهما أفضل، ففضل ابن قتيبة السمع ووافقه طائفة، واحتج بقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [يونس: 42-43]، قال فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر كان دليلاً على أن السمع أفضل.
قال ابن الأنباري هذا غلط وكيف يكون السمع أفضل وبالبصر يكون الإقبال والإدبار والقرب إلى النجاة والبعد من الهلاك وبه جمال الوجه وبذهابه شينه، وفي الحديث: «من ذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباُ دون الجنة».
وأجاب عما ذكره ابن قتيبة بأن الذي نفاه الله تعالى مع السمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر، إذا كأنه أراد إبصار القلوب ولم يرد إبصار العيون، والذي يبصره القلب هو الذي يعقله لأنها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقفون على صحته ثم يكذبونه، فأنزل الله فيهم: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ [يونس: 42] أي المعرضين، ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ بعين نقص ﴿أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ أي المعرضين ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [يونس: 43].
قال: ولا حجة في تقديم السمع على البصر هنا فقد أخبر في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ [هود: 24].
قلت: واحتج مفضلوا السمع بأن به ينال غاية السعادة من سمع كلام الله وسماع كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا وبه حصلت العلوم النافعة.
قالوا وبه يدرك الحاضر والغائب والمحسوس والمعقول، فلا نسبة لمدرك البصر إلى مدرك السمع، قالوا ولهذا يكون فاقده أقل علماً من فاقد البصر، بل قد يكون فاقد البصر أحد العلماء الكبار بخلاف فاقد صفة السمع فإنه لم يعهد من هذا الجنس عالم البتة.
قال مفضلوا البصر أفضل النعيم النظر إلى الرب تعالى وهو يكون بالبصر والذي يراه البصر لا يقبل الغلط بخلاف ما يسمع فإنه يقع فيه الغلط والكذب والوهم فمدرك البصر أتم وأكمل، قالوا وأيضاً فمحله أحسن وأكمل وأعظم عجائب من محل السمع وذلك لشرفه وفضله.
قال شيخنا(1): "والتحقيق أن السمع له مزية والبصر له مزية، فمزية السمع العموم والشمول، ومزية البصر كمال الإدراك وتمامه، فالسمع أعم وأشمل، والبصر أتم وأكمل، فهذا أفضل من جهة شمول إدراكه وعمومه، وهذا أفضل من جهة كمال إدراكه وتمامه".
ومن أدلة من قدم السمع على البصر أن السمع وسيلة إلى استكمال العقل بالمعارف التي تتلقف من أصحابها(2)، وفي مقدمة تلك العلوم الوحي، فهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع(3)، وبالسمع تنال سعادة الدنيا والآخرة فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاءوا به وهذا إنما يدرك بالسمع(4)، وأن إدراك السمع أقدم من إدراك البصر(5).
ويقول ابن عجيبة في تفسيره: "وقدَّم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر؛ لأنه أنفع للقلب من البصر، وأشد تأثيرًا فيه، وأعم نفعًا منه في الدين؛ إذ لو كانت الناس كلهم صمًا، ثم بُعِثت الرسل، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام. وإنما أفرده وجمع الأبصار والأفئدة؛ لأن متعلق السمع جنس واحد وهي الأصوات، بخلاف متعلق البصر، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان، والأنوار والظلمات، وسائر المحسوسات، وكذلك متعلق القلوب؛ معاني ومحسوسات، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع، والله تعالى أعلم"(6).
________________________
(1) يقصد به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
(2) تفسير أبي السعود 1/ 38.
(3) التحرير والتنوير لابن عاشور 1/ 151.
(4) بدائع الفوائد لابن القيم 1/ 75.
(5) تفسير أبي السعود 5/ 132.
(6) البحر المديد لابن عجيبة 3/ 287.