عن هشام بن عروة بن الزبير ، أن أباه خرج إلى الوليد بن عبد الملك ، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئا ، فظهرت به قرحة ، ثم ترقّى به الوجع ، وقدم على الوليد وهو في محمل ، فقال : " يا أبا عبد الله اقطعها " ، قال : " دونك " . فدعا له الطبيب ، وقال : " اشرب شيئا كي لا تشعر بالوجع " ، فلم يفعل ، فقطعها من نصف الساق ، فما زاد أن يقول : حس حس . فقال الوليد : " ما رأيت شيخا قط أصبر من هذا ". وأصيب عروة بابنه محمد في ذلك السفر ، إذ ركضته بغلة في اصطبل ، فلم يسمع منه في ذلك كلمة ، فلما كان بوادي القرى قال : " { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } ( الكهف : 62 ) : اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ستة ، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفا وأبقيت ثلاثة ، ولئن ابتليت لقد عافيت ولئن أخذت لقد أبقيت " .
قال عبد الله بن محمد : " خرجت الى ساحل البحر مرابطا ، فلما انتهيت إلى الساحل إذا أنا بخيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه ، وثقل سمعه وبصره ، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول : اللهم أوزعنى أن أحمدك حمدا أكافىء به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ ، وفضلتنى على كثير ممن خلقت تفضيلا ، فقلت : والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنّى له هذا الكلام ، فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت : سمعتك وأنت تقول اللهم أوزعنى أن أحمدك حمدا أكافىء به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ وفضلتنى على كثير من خلقت تفضيلا ، فأيّ نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها !؟ ، وأي فضيله تفضل بها عليك تشكره عليها !!؟ ، قال : أوما ترى ما صنع ربي!! والله لو أرسل السماء علي نارا فأحرقتني ، وأمر الجبال فدمّرتني ، وأمر البحار فغرّقتني ، وأمر الأرض فبلعتني ، ما ازددت لربى إلا شكرا ؛ لما أنعم علي من لساني هذا ، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني فإن لي إليك حاجة ، قد تراني على أي حالة أنا ، أنا لست أقدر لنفسي على ضرّ ولا نفع ، ولقد كان معي ابن لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضّيني ، وإذا جعت أطعمني ، وإذا عطشت سقاني ، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام ، فتحسّسه لي رحمك الله . فقلت : والله ما مشي خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجرا ممن يمشي في حاجة مثلك . فمضيت في طلب الغلام ، فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل ، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه ، فاسترجعت وقلت : بأي شيء أخبر صاحبنا ؟ فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتيته سلمت عليه ، فرد عليّ السلام ، فقال : ألست بصاحبي ؟ ، قلت : بلى ، قال : ما فعلت في حاجتي ؟ ، فقلت : أنت أكرم على الله أم أيوب النبي ؟ ، قال : بل أيوب النبي !! ، قلت : هل علمت ما صنع به ربه ؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده ؟ ، قال : بلى ، قلت : فكيف وجده ؟ ، قال : وجده صابرا شاكرا حامدا ، قلت : لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه ؟ ، قال : نعم ، قلت : فكيف وجده ربه ؟ ، قال : وجده صابرا شاكرا حامدا ، قلت : فلم يرض منه بذلك حتى صيره عرضا لمارّ الطريق ، هل علمت ذلك ؟ ، قال : نعم ، قلت : فكيف وجده ربه ؟ ، قال : صابرا شاكرا حامدا ، أوجز رحمك الله !! قلت له : إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل ، وقد افترسه سبع فأكل لحمه ؛ فأعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر ، فقال المبتلى : الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار . ثم استرجع وشهق شهقة فمات . فقلت : إنا لله وانا اليه راجعون ، عظمت مصيبتي في رجل مثل هذا ، إن تركته أكلته السباع ، وإن قعدت لم أقدر له على ضر ولا نفع ، فسجّيته بشملة كانت عليه ، وقعدت عند رأسه باكيا ، فبينما أنا قاعد إذ جاء أربعة رجال فقالوا : يا عبد الله ، ما حالك ؟ وما قصتك ؟ ، فقصصت عليهم قصتي وقصته ، فقالوا لي اكشف لنا عن وجهه ؛ فعسى أن نعرفه . فكشفت عن وجهه ، فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرة ويديه أخرى ، ويقولون : بأبي عين طالما غضت عن محارم الله ، وبأبي وجسمه طالما كنت ساجدا والناس نيام ، فقلت : من هذا يرحمكم الله ؟ فقالوا : هذا أبو قلابه الجرمي صاحب ابن عباس ، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم . فغسّلناه وكفنّاه بأثواب كانت معنا ، وصلينا عليه ودفناه ، فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي ، فلما أن جن علي الليل وضعت رأسي ، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة ، وهو يتلو الوحي : { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ( الرعد : 24 ) ، فقلت : ألست بصاحبي ؟ ، قال : بلى ، قلت : أنّى لك هذا ؟ ، قال : إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية " .