مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال الله تعالى:﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾(يونس:24)
لما ذكر سبحانه وتعالى ما تقدم من تعلقَّ الناس بالحياة الدنيا ومتاعِها الزائل، وركوبهم في سبيل ذلك المتاع مراكب البغي، بيَّن لهم أن هذا البغي أمر باطل، يجب على العاقل أن يحذر منه، فقال سبحانه:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(يونس:23).
مشيرًا بذلك إلى أن بغي على أنفسهم إنما هو منفعة الحياة الدنيا، لا بقاء له. بمعنى: أنه لا يتهيأ لهم بَغيُ بعضهم على بعض إلا أيامًا قليلة؛ وهي مدة حياتهم مع قصرها وسرعة انقضائها.
ثم عقََّبسبحانه وتعالى على ذلك بضرب هذا المثل، الذي يدعو فيه كل لبيب عاقل إلى الزهد في الحياة الدنيا الفانية، ومتاعها الزائل، ويحذرهم من الاغترار بزينتها، وبهجتها؛ لأن مصير ذلك كله إلى زوال، وفناء، فقال جل شأنه:
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ.. ﴾
فكان ذلك بمنزلة البيان لقوله تعالى في الآية السابقة:﴿ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، المؤذن بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة.
وهو تمثيل بين وجودين: الأول ذهني معقول؛ وهو قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾. والثاني خارجي محسوس؛ وهو قوله تعالى:﴿ كمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ.. ﴾؛ وهو صورة مركَّبة من الماء المنزل من السماء، ونبات الأرض المختلط بالماء، وما يمر به من أطوار. والكاف بينهما أداة التشبيه، والجامع: الزينة والبهجة، ثم الهلاك والزوال.
وقوله تعالى:﴿ إِنَّمَا ﴾ أداة قصْر جيء بها لتأكيد المقصود من هذا التشبيه، وهو سرعة الهلاك والزوال، ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا وزينتها؛ لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا؛ كحال من يحسب دوامه، وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجىء. فالقصر- هنا- قصر قلب؛ لأنه مبْنيٌّ على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس ذلك.
والمعنى: أن مثل الحياة الدنيا، في زينتها وبهجتها، وما يتعقبها من الزوال والفناء، يُشْبِه نبات الأرض المختلط بماء السماء، ممَّا يأكل الناس والأنعام؛ حتى إذا استكملت به الأرض زينتها، وظهر حسنُها وجمالها، فبدت كأنها العروس ليلة زفافها، بما تزينت به من أنواع النبات، وأشكاله المختلفة وألوانه الزاهية، واطمأن إليها أهلها، وظنوا أنهم قادرون على جنْيِ ثمارها، وحصْد زروعها بعد أن سلمت من الآفات، نزل به قضاء الله بغتة، فجعله حصيدًا؛ كأنْ لم يَغنَ بالأمس.. كذلك مثل الحياة الدنيا، والواثق المغتر بها سواء !
وهكذا صوَّر الله تعالى الحياة الدنيا، في تقضِّيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها وبهجتها، بصورة نبات الأرض، في هلاكه وبواره بعد اخضراره وزهائه؛ فبيَّن بذلك لكل باغ مفسد في الأرض مغتر بالدنيا متشبث بها، كيف ينتهي شريط الحياة كلها بما فيها من زينة ومتاع، بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشرية المألوفة؛ ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال.
فالمشبه هنا، وهو مثل الحياة الدنيا في زينتها وبهجتها، ثم زوالها، وإن كان يتكرر، إلا أن إحساسنا به ليس بنفس درجة الإحساس بصورة النبات الزاهي، الذي يصيبه الهلاك؛ لأن هذا يقع كثيرًا تحت السمع والبصر، بخلاف الأول.. ففي كل يوم نرى نباتًا يحياً، ونباتًا يموت، فنرى بذلك الحياة والموت يمثلان أمامنا في كل زمان ومكان. ولهذا كثُرَت هذه الصور في القرآن الكريم. والله سبحانه أراد بذلك أن يلفت في كل حال إلى المصير المحتوم، وأراد أيضًا أن يلفت إلى ضرورة التفكير فيما يحيط بالمسلم، ويقع عليه بصره من الأشياء، وضرورة أخذ العظة والعبرة من ذلك.
ذلك هو مثل الحياة الدنيا، التي لا يملك الناس إلا متاعها, حين يرضون بها, ويقفون عندها، ويستغرقون فيها، ويضيِّعون الآخرة، التي هي أكرم وأبقى؛ لينالوا منها بعض المتاع. وهو من أبلغ الأمثال، التي تقوم على التشبيه والقياس.
وننظر قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾، فنجد فيه لمحة من لمحات الإعجاز البياني.. نجدها في هذا التخالف بين المُمَثَّل، والمُمَثَّل به؛ حيث كان الظاهر أن يقال: إنما مثل الحياة الدنيا؛ كمثل ماء.. وبذلك تحصل المطابقة بين وجهيْ الصورة.
ولكن هذا يخلُّ بمعنى الكلام؛ حيث يقضي أن تكون المماثلة، بين{ مثل الحياة الدنيا }، { ومثل النبات المختلط بنبات الأرض }. وهذا يوجب أن يكون التمثيل بين وجودين علميين ذهنيين. وقد سبق أن ذكرنا أن التمثيل- هنا- هو بين وجودين: الأول: علمي ذهني. والثاني: علمي خارجي. وإذا كان كذلك، فلا يجوز ذكر لفظ { المثل }، أو تقديره عقب كاف التشبيه.
ويتضح لك ذلك، إذا علمت أن المراد هنا: تشبيه مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض في حقيقته، مع ما يصحب هذه الحقيقة من أحوال، من اختلاط بالماء، ثم نماء واخضرار وزهوٍّ، ثم ذبول وهلاك.. ولهذا لم يؤتَ بلفظ المَثل، عقِب كاف التشبيه.
وكان حق كاف التشبيه أن تدخل على النبات، فيقال:﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. كَنَبَاتِ الأرْضِ اخْتلَطَ بِمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾.
لأن المشبه به- في الحقيقة- هو النبات، لا الماء. والأصل في أداة التشبيه أن يليها المشبه به؛ ولكن خولِف هذا النظم، لفائدة جليلة، وسر بديع؛ وهو تقديم ما هو أهم. والأهم- هنا- هو الماء، بدليل أن الماء من أهم العناصر، التي تدخل في تكوين النبات؛ بل النبات لا يكون نباتًا إلا بوجود الماء فيه؛ ولهذا قدم- هنا- على النبات عناية بذكره واعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه.. فتأمل ذلك!
وفي قوله تعالى:﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾ إعجاز آخر من إعجاز القرآن، وسرٌّ بديع من أسراره. فالنظم القرآني لهذه العبارة الموجزة، جعل اختلاط نبات الأرض بماء السماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات. لم يقل سبحانه:{ فاختلط بنبات الأرض }، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنساني لهذه الظاهرة؛ لأن الماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسري في كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى نحن البشر، وهكذا نقدر؛ ولكن عين الله المقدِّرة ترى ما لا نرى، وتعلم ما لا نعلم.
وقبل أن نكشف عن سِرِّ النظم في هذه العبارة الموجزة، لا بدَّ أن نعلم أن المراد بالنبات- هنا- هو: البذر، أو الحب، لا النبات حين يكون نباتًا؛ فإنه في تلك الحال لا يكون مجرَّد نباتٍ؛ بل هو الماء، والنبات معًا، وأن لقاءً قد تمَّ بين الماء، وبذرة النبات؛ حتى أصبح نباتًا. وهذه البذرة ليست شيئًا ميتًا- كما يبدو لنا- وإنما هي كائن حيٌّ، يحتفظ في كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر مَنْ يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور؛ وذلك لا يكون إلا بأمرين:
أولهما: غرس الحبة في الأرض. والثاني: وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين. هنا تبدأ الحياة الكامنة في الحبة، فتتحرك، وتأخذ إلى الماء المختلط بالتراب طريقها، فتجذبه إليها، وتأخذ منه ما يروِّي ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق، التي ائتمنها عليها.
فالحبة- إذًا- هي الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها، وما الماء والتراب والطين إلا عناصرٌ مساعدة.. ومن هنا جاء النظم القرآني لهذه العبارة مسنِدًا الاختلاط بالماء إلى النبات. ولو جاء على عكس ذلك، لكان خطأً علميًّا، يناقض ما كشف عنه العلم اليوم.
ومن هنا ندرك سر وقوف نافع في قراءته على قوله تعالى:﴿ فَاخْتَلَطَ ﴾. ثم ابتداؤه بقوله تعالى:﴿ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾. أي: بالماء نبات الأرض. وهذا يؤكد أن الماء المنزل من السماء يختلط بتراب الأرض، ويذيب ما فيه من عناصر غذائية بعد أن يحوله إلى طين، ثم يختلط النبات- أي: البذر- بالماء من خلال اختلاطه بالطين، الذي يمده بالماء والغذاء.. ومن هنا يأخذ البذر طريقه في النمو، ويتحول إلى نبات، يكون الماء أحد عنصريه، فيخضر بعد ذلك، ويزهو، ويحسن. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك كله بقوله:
﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾(عبس:25- 32).
ثم ماذا بعد ذلك؟ يأتيه أمر الله تعالى بالهلاك، فيجعله حصيدًا كأَن لم يَغْنَ بالأمس.
هكذا تبدأ رحلة حياة النبات، وهكذا تنتهي.. كذلك متاع الحياة الدنيا، مآله إلى الزوال، والإنسان مآله إلى الموت، و﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (القصص:88)، سبحانه وتعالى!
وقوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ﴾ جُعِلت فيه الأرض آخذة زخرفها، على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزيَن.
وأصل﴿ ازَّيَّنَتْ ﴾: تزيَّنت، أدغمت التاء في الزاي، وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين: الأول منهما ساكن، والساكن لا يبتدأ به. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما:﴿ تَزَيَّنَتْ ﴾، على الأصل.
وفي قوله تعالى:﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾ إشارة إلى تمكُّن أصحابها من جني ثمارها، وتناول قطوفها؛ إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضـها للآفات، التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر. فإذا اجتاحتها آفة- وهي على تلك الحال من الجمال والنضارة- كان ذلك أوجع، وأفجع لأهلها.
وقوله تعالى:﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ﴾ يراد به: الإبهام. والمعنى: إذا أخذت الأرض زخرفها، وأخذ أهلها الأمن، أتاها أمرنا- ليلاً أو نهارًا- وهم لا يعلمون. أي: أتاها أمرنا فجأة. فهذا إبهام؛ لأن الشك مُحَال على الله تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أنه، لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم، وزمن يقظتهم؛ إذ لا يمنع منه مانع، ولا يدفع عنه دافع.. روي عن قتادة أنه قال:” إن المتشبِّث بالدنيا يأتيه أمرُ الله وعذابُه أغفَلَ ما يكون “.
وقوله تعالى:﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ﴾ المراد به: فجعلنا نباتها. أو زرعها تشبيهًا بما حُصِد من الزرع في قطعه واستئصاله؛ لأن الحصيد في الأصل هو ما حُصِد من الزروع بعد نضجها. ولم يؤنث؛ لأنه على وزن ( فعيل )، بمعنى مفعول ). أي: محصودة، في غير إبان حصادها، على سبيل الإفساد.
وقوله تعالى:﴿ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾، قراءة العامة: تَغْنَ، بالتاء، وقرأ قتادة: يَغْنَ، بالياء، ذهب به إلى الزخرف. يعني: فكما يهلك هذا الزرع هكذا.. كذلك زينة الحياة الدنيا، ومتاعها.
والأمس: مَثلٌ في الوقت القريب؛ كأنه قيل: لم تغن آنفًا. أي: لم تلبَث على حال من الاستقرار والثبات. وهو من قولهم: غَنِيَ في مكان كذا: إذا طال مَقامُه فيه، مستغنيًا به عن غيره.
والمغاني جمع مَغْنَى، وهي المنازل، التي يَغنَى أهلها بالإقامة فيها، ويستغنون بها عن غيرها. ولإفادة هذا المعنى، جيء هنا بالفعل ﴿ تَغْنَ ﴾ منفيًا بـ﴿ لَمْ ﴾؛ كما جيء به في قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾(الأعراف:92)، إخبارًا عن المهلكين من كفار مدين وثمود.
ومن الملاحظ أن هذا الفعل﴿ يَغْنَى ﴾ المنفي بـ﴿ لَمْ ﴾، لم يأت في البيان القرآني إلا في سياق ديار مدين، وثمود، ومثل الحياة الدنيا في أربع آيات؛ لأن سياقها يقتضيه هو دون غيره؛ فكأن القرآن لا يرى أيَّ مَقام في الدنيا، يمكن أن يُغني، أو يُسْتغنَى به عن الآخرة.
وإنما غرَّ هؤلاء القوم الكفرة مَقامُهم في الحياة الدنيا، فظنوا واهمين أنه يغنيهم عن الآخرة، فأخذتهم الصيحة؛ والرجفة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾؛ كما غرَّ الأرضَ ما اتخذته من زخرف النبات، وزينته، وظن أهلها أنهم متمكنون منها، وقادرون على جني ثمارها، أتاها أمر الله تعالى بغتة، فجعلها صعيدًا ﴿ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾.
وفي هذه المواضع لا يمكن أن يؤدِّي أيَّ فعل معنى{ غنِيَ }، بما يفيد من وهم الغنى، والاستغناء فيما يظنه الإنسان{ مَغْنًى }؛ إذ ليس من شأن الدنيا الفانية أن يكون فيها{ مَغْنًى }، يغني الإنسان بالاستقرار فيه، إلا غرورًا ووهمًا.
وفي إسناد الاستقرار المفهوم من قوله تعالى:﴿ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ ﴾ إلى الأرض، مع أنه لأهلها- كما يشير إليه قوله تعالى في آية الأعراف:﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾- إشارة إلى أنها، بما لبسها من حياة، وما نبض في عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حُللٍ وحِلًى، قد أصبحت كائنًا حيًّا، مستغنيًّا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف.
وقد جعل الله تعالى إهلاك المهلكين حصادًا عقوبة لهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، فقال سبحانه:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾(هود:100).
أي: بعضها باق، وبعضها عافي الأثر؛ كالزرع بعضه قائمٌ على ساقه، وبعضه حصيدٌ.
وجاء قوله تعالى:﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ تذييلاً جامعًا لما قبله. أي: مثل هذا التفصيل، الذي فصلنا به هذا المَثل، نفصل الآيات الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة، وهي واحدة من عموم هذه الآيات.
واللام في قوله:﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ للتعليل. أي: نفصل الآيات لأجلهم، لا لأجل غيرهم. وإنما خصهم بالذكر؛ لأنهم أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور. والتفكُّر هو التأمل والنظر، وهو مشتقٌّ من الفكر، وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكُّر، ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم.
اللهم اجعلنا من القوم الذين يتفكرون في آياتك البينات، ويعتبرون، واجعلنا من الذين يفقهون أسرار بيانك، ويعقلون أمثالك، والحمد لله رب العالمين!
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك